الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

فى البدء كانت ، ولم تزل ـ

فى البدء كانت الكلمة ، ولم تزل ... كانت الكلمة علة الوجود وغايته ؛ ولما كانت هكذا وجب أن يعرف لها حقها وأن تنزل منزلتها التى تستحق ؛ فكم من كلمة أعلت وكم من كلمة حطت وكم من كلمة دمرت أقواما وسيدت أقواما فغيرت أراضين وخطت تواريخا .

ولقد عرفت الأمم والشعوب على تواليها واختلافها ما للكلمة من شأن فأعلت أصحابها ورفعت من شأنهم وأوجبت لهم ما ليس لغيرهم من فضل المشورة و الرأى بل والقيادة أيضا . إن صورة الكاتب المصرى المنقوشة على جدران المعابد المصرية الفرعونية تؤيد ماسبق من إقرار عظم شأنهم وجلال مهمتهم ، وإن أخبار أدباء ومفكرى أثينا التى نقلتها لنا كتب التاريخ كفيلة بمعرفة ما لهم من فضل ويد على دولة اليونان وسائر أوروبا القديمة . ولقد شهد التاريخ المعاصر قادة أدباء أمثال ونستون تشرشل الذى قاد بريطانيا فى فترة من أصعب فترات تاريخها على عمومه فقدم لها بفكره وكلمته ما يحفظه له بنو وطنه حتى اليوم ، ومن قبله ولى سدة الحكومة فى مصر محمود سامى البارودى الذى جمع بين الكلمة والسيف والسياسة فأسس لمراحل جديدة فى تاريخ مصر الحديثة كانت أولاها شعرية ولم يكن آخرهاسياسية وطنية أسس لها ورفاقه .

ولما كانت هذه منزلة الكلمة وصاحبها لم تكن لتوهب إلا لمن يستحقها ، ففنون الصياغة والصنعة ليست من السهولة بمكان بأن يتمكن منها كل فرد ولكنها ملكة يهبها الله من عباده من يشاء ، ولا يتوقف الأمر عند هذا ، فإن هذه الملكة إن لم تكتشف مبكرا وتراع لتنمو تموت وتزوى كأن لم تكن .

والكلم فى لسان العرب كلمتان ؛ إما شعر و إما نثر وعلى قدر ما يفترقان على قدر ما يجتمعان ، وإن كان للشعر من الفضل ماله على النثر لعلة فبه ليست فى النثر ، فهو أخف وأطرب ولذا كان أطير من النثر وأدوم . وإن كان هذا لا يعنى أبدا أن النثر لم يحظ بنصيب من الذيوع والبقاء ، وإن كان من فضل فهو للإسلام ؛ فالقرآن الكريم وهو النص العربى المعجز شكلا ومضمونا أبعد ما يكون عن الشعر وأقرب مايكون من النثر وهو ليس بأحدهما لأنه كلام الله المنزل من فوق سبع سماوات والذى لاتحويه قاعدة ولايعامل كنص أدبى بحال . كما أن الأحاديث النبوية الشريفة بشكلها وأسلوبها أسست لمرحلة جديدة فى تاريخ العربية والعرب ، مرحلة يروى فيها ويتواتر النص النثرى كما هو النص الشعرى .

ولقد عرفت العرب بعد الإسلام – والفضل له – التدوين وفنونه مما ساعد على انتشار فن النثر حيث صار أسهل حفظا وصارت اللغة أحوج إليه من الشعر لما وجد فيه من فنون وخصائص أوجدتها وتطلبتها الطبيعة السياسية والاجتماعية والدينية لدولة العرب ، فأسست الفنون كالخطابة والرسالة والمقال وغيرها . ولقد تغيرت الأزمان والطبائع فتباينت الفنون وتناوبت على الصدارة ، ومما تصدر المشهد الأدبى فى عصرنا الحديث فن المقال حيث لاقى ذيوعا وانتشارا واسعين لما أحدثته الصحافة والصحف من واقع شغل معظمه نثر الكلام " المقال " واكتفى بأقله شعره .

إن الفكرة حين تسيطر على الكاتب فيشرع يحيلها كلما على ورق تشهد أطوارا عدة و مراحل مختلفة تبدأ من عقله وقريحته ولاتنتهى على ورقته بل تنتهى إلى قلب وعقل قارئها ، وعلى قدر ما فى هذا الأمر من مشقة على قدر ما فيه من لذة ، وكلما سمت الملكة و زاد التمرس كلما زادت المتعة ولانت الكلمة ودانت ؛ فإن مستقر الكلمة لدى متلقيها هو ذات مخرجها من لدن ملقيها ؛ وصدق من أوتى جوامع الكلم حين قال " إن من البيان لسحرا ".

ليست هناك تعليقات:

Powered By Blogger

الساعة الآن

دفتر التشريفات