الثلاثاء، 15 مارس 2011

التعديلات الدستورية ، والبداية .. 19 مارس

قامت الثورة المصرية وخلع مبارك وأسقطت حكومته من بعده ، واستتب الأمر من بعد لحكومة حازت فى مجملها على رضا الشارع الثائر تحت قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى عهد إليه مبارك بالحكم قبل رحيله وهو ما ارتضاه الشعب آنذاك فى معادلة تكفل للبلاد تحولا ديمقراطيا عبر مرحلة انتقالية تلك ملامحها التى رسمها المجلس الأعلى :
تشكل لجنة قانونية معينة من قبل المجلس لتعديل بعض المواد فى الدستور المصرى – المعطل من قبل المجلس الأعلى – تمهد حسب زعمه لإجراء انتخابات تشريعية فى أقرب وقت على أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية لاحقا بعد الانتخابات التشريعية ، وتحدث المجلس عن تصور زمنى للمراحل الثلاث يسلم بعدها السلطة لحكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا وهو ستة أشهر أو يزيد بحد أقصى انتخاب رئيس الجمهورية .
شكلت اللجنة المكلفة بالتعديلات الدستورية برئاسة المستشار طارق البشرى وبعضوية تسعة خبراء دستوريين وقانونيين وتشريعيين كلهم اختيروا من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، وأتمت اللجنة عملها بتعديل ثمان مواد قائمة وحذف تاسعة تتعلق فى مجملها بشروط وآليات انتخاب رئيس الجمهورية ومدة حكمه بجانب آليات وضع دستور جديد للبلاد على إثر انتخابات تشريعية ، ومن ثم رفعت التعديلات إلى المجلس الأعلى الذى أقرها بدوره وأعلن عن تحديد التاسع عشر من مارس الجارى موعدا للاستفتاء الشعبى عليها ؛ وهنا بدأ السجال ....

فالكيان الشعبى الذى بدا للجميع جسدا متحدا أيام الثورة انقسم على نفسه الآن ؛ فمن مؤيد للخطوة يدعو إلى النزول يوم التاسع عشر والتصويت بــ "نعم" على التعديلات ، ومن معارض لمبدأ التعديل أو تفصيله يدعو إلى التصويت بــ "لا " ، إلى من يدعو لمقاطعة الاستفتاء جملة وتفصيلا وهم نفر قليل .

وبغض النظر عن الفريق الثالث ، لا يخلو مذهب الفريقين الآخرين من وجاهة فى الرأى توجب مناقشتهما ؛ فالذى أجمعت الجماعة الوطنية المصرية هو ضرورة إسقاط كل ما اتكأ عليه النظام البائد طوال حكمه وضرورة بدء مرحلة جديدة تماما بغير رواسب العهد البائد ، وأول هذه الأمور هو خط دستور مصرى جديد يتناسب ومبادىء العدالة والحرية والديمقراطية ويمثل كافة ألوان الشعب المصرى ، ولكن هذا الإجماع النظرى لم ينعكس إجماعا على التطبيق حيث أن المؤسسة الحاكمة وإن تعاطت بايجابية فى كثير من الأمور ، تنزع فى بعضها إلى الأسلوب العسكرى الهرمى الذى ينحدر فيه الأمر والتكليف من أعلى إلى أسفل وهو ما لم يوفر للسياسيين المصريين رفاهية الاختيار فى التطبيق كما هى فى متوفرة التنظير .

وفى وجهات النظر يرى الفريق الأول المصوت بنعم أن ليس فى الامكان أبدع مما كان ، فالتعديل الآنى – المتوفر - وفقط هو الأنسب للفترة الحرجة الحالية حيث يكفل – إن أٌقر - إجراء انتخابات تشريعية فى وقت قريب ( من شهرين إلى ستة أشهر ) تعيد لمصر بعضا من الاستقرار السياسى والأمنى والاقتصادى وتسد حالة الفراغ التشريعى والسياسى القائمة منذ منتصف فبراير على أن يتم بعدها انتخاب لجنة تأسيسة لصياغة دستور جديد كما هو منصوص فى التعديلات وهو ما يرنو إليه الجميع . أما الفريق الثانى المعارض للتعديلات فيرى أن الدستور الحالى قد سقط بسقوط النظام وغيب بتجميد العمل به من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وعليه فلا يجوز استحضاره الآن لأى سبب كان ، ويكفينا الاستناد إلى الشرعية الثورية لتعيين مجلس تأسيسى لصياغة دستور جديد يتم بعده انتخاب رئيس للجمهورية والمجالس التشريعية وبذا تنتهى الفترة الانتقالية وتبدأ مرحلة ما بعد الثورة .

ويرى المحلل فى المذهبين منطقا محترما – بغض النظر عن نوايا الفريقين – حيث أن لكل حججه وأسبابه ، ولكن المنطق يقول أن اختلافا بهذا الشكل يستوجب رجحانا للصواب عند أحدهما عنه عند الآخر وللقارىء تحديد أيهما أحدهما وأيهما الآخر ؛
يعنى الطرح الأول المؤيد للتعديلات الالتزام بما تعهد به المجلس الأعلى من الخروج من المشهد السياسى نهائيا بعد انتهاء مهلة الشهور الستة أو أواخر العام الجارى على أقصى تقدير - كما صرح بعض العسكر مؤخرا - ، فى حين لايرى أصحاب الطرح الثانى المعارض للتعديلات أى غضاضة فى مد فترة تواجد العسكر فى الحكم فترة قد تصل إلى عامين أو أكثر ، طالما سيعطى فسحة لتكوين أحزاب جديدة منبثقة عن الثورة ويتيح الفرصة للتيارات السياسية للتواصل مع الشارع بما يخلق مناخا سياسيا حقيقيا يسمح باجراء انتخابات تشريعية تفرز برلمانا حقيقيا ممثلا للون السياسى المصرى أجمعه ، الأمر الذى يرد عليه الفريق الأول بأنه أمر نسبى وما لن يفعل فى عام – أو أقل – لن يفعل فى عامين – أو أكثر - .
وفى حين يرى المعارضون للتعديلات فى تعيين مجلس تأسيسى لصياغة دستور جديد حلا مناسبا يؤدى إلى انتخابات نزيهة على أسس دستورية ثابتة ، يرى الآخرون أن هذا سيؤدى بالبلاد إلى طريق شائك من حيث صعوبة – بل استحالة – الاتفاق على مائة شخص يرضى عنهم الجميع ، ناهيك عن لغط المحاصصة والتمثيل والنسبة والوزن السياسى والشعبية وغيره مما ظهر جزء يسير منه فى على إثر تعيين لجنة التعديلات الدستورية المكونة من عشرة أفراد فقط .
وفى معضلة الترتيب الزمنى يعلل المعارضون للتعديلات مطالبتهم بالرئاسية أولا بعدم توافر المناخ المطلوب لإجراء الانتخابات التشريعية وعليه فإن ترحيلها لوقت لاحق هو الأفضل ، وتلافيا لمبدأ الفراغ السياسى القائم تجرى الانتخابات الرئاسية فى وقت أقرب ، وهو مايرد عليه الفريق الآخر بأن انتخاب رئيس للدولة قبل انتخاب مجلس تشريعى رقابى يعتبر إعادة خلق لديكتاتورية متألهة ثار المصريون منذ أيام قليلة لاجتثاثها ، كما أن ما تتطلبه الانتخابات التشريعية من مناخ سياسى تتطلبه من باب أولى الانتخابات الرئاسية فى دولة ألفت حكم الفرد المطلق منذ آلاف السنين .
أما فيما يتعلق باحتمال عودة الحزب الوطنى ورجال أعماله الى السلطة – فى اطار جديد - عبر البرلمان حيث مايزال نفوذهم قويا وأعوانهم متواجدين فى الشارع – كما يرون – وعليه يتوجب تأجيل الانتخابات التشريعية لتفويت الفرصة عليهم ولإتاحة الوقت للشباب الثائر غير المسيس لتشكيل إطار جامع له يستطيع من خلاله الحصول على حصة فى البرلمان تمثله وتتناسب مع حجمه الكبير فى الشارع ؛ يدفع مؤيدو التعديلات ومن ورائها الانتخابات التشريعية هذا الاحتمال بقولهم إن الحزب الوطنى لم يكن يوما حزبا بهيكلية وقواعد كأى حزب قوى ديمقراطى وإنما كان مجموعة من المنتفعين الملتفين حول السلطة ، وكما تفككت السلطة الحاكمة تفكك ، كما يراهن هؤلاء على وعى الشعب الذى نزل إلى الشارع وعلى نضجه السياسى الذى خلق ثورة مجتمعية راقية بحق ، ناهيك عن إمكانية توصل القوى الوطنية لشكل ما من أشكال التوافق والتحالف فى الترشح للانتخابات قد يؤدى إلى إقصاء هذه العناصر الفاسدة من أزلام الحزب الفاسد . على أنهم يرون أن الشباب الذى شارك فى الثورة فى معظمه مؤطر سلفا بإطارات سياسية أو أيديولوجية قد تكفيه فى هذه المرحلة لتحديد اختياراته الإنتخابية دون حاجة ماسة لمزيد من الوقت ، حيث أن الادعاء بأن من دعا من الشباب إلى الثورة أو شارك فيها كانوا من غير المسيسين هو إدعاء باطل ثبت بطلانه بمراجعة سريعة للأحداث منذ ما قبل 25 يناير وحتى الآن .

إن الرؤى والآراء التى طرحها كلا الفريقين وعلى اختلافها تتلاقى كلها فى نقطة واحدة يتفق عليها الجميع وهى أن مصر بعد الخامس والعشرين من يناير أصبحت أوسع أفقا وأنضج فكرا وأكثر استعدادا لممارسة ديمقراطية حقيقية تبدأ أول ما تبدأ بمشاركة واسعة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية رفضا كانت أو إقرارا .

انتفاضة الشعب 2

ستون عاما ؛ ستون عاما أو يناهز وشعب مصر يتجرع مرارة حكم الفرد المطلق ، الزعيم ، الملهم ، العالم بكل شىء ، والمالك لكل شىء فى البلاد ، القابض على نفوس العباد ... ولكن هذا الشعب اكتفى من هذا كله وأعلن فى صبيحة يوم من أيام ينايرهو الخامس والعشرون فى السنة الحادية عشرة بعد الألف الثانية للميلاد أن حلما طال انتظاره قد آن تحقيقه ...

مستعينا بالله ومستلهما ثورة شعب تونس على طاغيتها قرر شباب من مصر دعوة جموع المصريين إلى التظاهر يوم الخامس والعشرين من يناير ضد استبداد السلطة وفساد ذوى القربى وتردى أحوال العباد ؛ وفى بلد تمسك سلطتها بزمام الإعلام مرئيه ومسموعه ومقروئه كان الواقع الافتراضى هو المكان الوحيد المتاح للدعوة فبدأت دعوات التظاهر تنتشر على الفيس بوك موقع التواصل الاجتماعى وتويتر وغيرهما ، ولما كان هذا الواقع افتراضيا ومقصورا على فئة دون غيرها لم يتوقع أن يشهد يوم التظاهر حشدا كبيرا ومتنوعا ولكن الجميع توقع أن يشهد اليوم مظاهرة أو بضع مظاهرات متفرقات كتلك التى تعود الجميع على رؤيتها فى السنوات الست الأخيرة ؛ قلة فى العدد وتكرار فى الشعارات وانفضاض بعيد العصر ॥

ولما كانت ساعة الصفر تقاطر الآلاف من أبناء مصر إلى الشوارع فى القاهرة وغير القاهرة ، فكان الحشد كبيرا وأخذ يجوب الشوارع فى غير اعتراض من جحافل الأمن المركزى ليستمر الوضع على هذا الحال حتى انتصاف نهار القاهرة حين أحس رجال أمن الرئيس أن لابد من التدخل وإنهاء هذه "المهزلة" ، بدأت قوى الأمن فى التعامل مع المتظاهرين واشتبكت معهم لتبدأ عمليات الكر والفر فى الشوارع الضيقة والأزقة، واستمر هذا المشهد طوال الليل فى ميدان التحرير الذى قرر المتظاهرون المبيت فيه والاعتصام حتى تتحقق مطالبهم ؛ ونتج عن استخدام العنف المفرط إصابات بليغة وحالات احتناق وحالات قتل فى أماكن أخرى كالسويس وحينها عرف الجميع أن هذه لم تكن إلا البداية ، بداية شىء قد يطول وقد يكون تكرارا لما حدث فى تونس منذ أيام ....ـ

استمرت المظاهرات يومى الأربع والخميس التاليين بتوافق على أن يتم الحشد لمظاهرات أكبر فى الجمعة التالية " جمعة الغضب " التى سطرت بأحداثها أمجد أيام مصر فى عصرها الحديث ؛ نزل مئات الآلاف من المصريين وتصدوا لقمع وإرهاب قوات الأمن فارتقى الشهداء ووقع الجرحى وبرزت بطولات ، ولم يكد عصر هذا اليوم يحل حتى حدث ما لم يتوقعه أحد فاختفى من شوارع مصر كلها كل ما يمت لوزارة الداخلية بصلة ولم يعد يرى أثر لضابط أو عسكرى فى رابط غريب مع نزول قوات من الجيش المصرى لتأمين بعض المنشآت الحساسة والهامة فى البلاد والذى تطور لاحقا ليصبح انتشارا فى كامل أنحاء القطر المصرى ।


وفى التحرير نصبت الخيام وبدأ الاعتصام الذى جمع ولأول مرة كافة أطياف الشعب المصرى من أجل غاية واحدة وهدف واضح هو إسقاط نظام حسنى مبارك ؛ ويوما بعد يوم كانت المظاهرات والاحتجاجات تزداد قوة فى كل مصر وتزداد أعداد المعتصمين بالتحرير ومعها أيضا تزداد الحرب الإعلامية والأمنية والنفسية ضد ثوار مصر فكما العادة مارس الإعلام الرسمى والخاص دوره القذر فى مساندة السلطة والترويج لأكاذيبها التى لم تنجح فى النهاية فى ثنى هذا الشعب عن تحقيق مراده । وعلى الرغم من إطلالة مبارك على الشاشات ثلاث مرات محاولا وأد ثورة قامت عليه إلا أنه أثر بشكل ما فى بعض المصريين البسطاء وأطال من ساعات بقائه فى السلطة ليس أكثر ، حيث لم يسفر خطابه الأول الذى أقال فيه حكومة نظيف عن مكاسب لفريقه فصمت أياما ثم عاد بخطاب ممجوج مبتذل داعب فيه عواطف البسطاء من المصريين متحدثا عن تضحياته وحبه لمصر ورغبته فى الموت على أرضها التى قدم من أجلها الغالى والنفيس – أو هكذا يتصور - ، ونجح هذا الخطاب فى غربلة المعتصمين وفى إضافة نقاط لصالح مبارك ولكن الله سلط على فريقه عقولهم فلم يكد التعاطف مع الرجل يظهر حتى غزت النياق والخيول ميدان التحرير فى مشهد أعاد للجميع صورة من صور حرب أحمس على الهكسوس ورسم صورة شديدة الوضوح للفكر الذى حكم مصر طوال ثلاثة عقود خلت مما أفقد مبارك وحزبه أى تعاطف حازه بالأمس ।


استمر التصعيد من قبل الثوار واستمر التنازل من قبل السلطة فلم تفلح دعوات الحوار ولم يجد تعيين عمر سليمان نائبا للرئيس أو أحمد شفيق رئيسا للوزراء ، فقرر مبارك أن يطل علينا مرة أخرى توقعها الجميع إطلالة التنحى ، إلا أن الرجل آثر أن يستمر فى عناده وتكبره فخرج متوعدا الفاسدين ومنددا بالفساد ومتعهدا " باستمرار الإصلاحات "، وعندها سادت حالة من الإحباط بين المصريين وشعروا بأن النفق المظلم سيطول ، ولكن وعد الله الحق وقع فلم تكد تغرب شمس الحادى عشر من فبراير حتى أطل علينا نائب الرئيس مقتضبا خطابا يعلن فيه " تخلى " الرئيس عن سلطاته لصالح المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى كان فى حالة انعقاد دائم بغير رئاسة مبارك فوضحت الصورة بنجاح الثورة وبدء التغيير الحق والعمل الجاد ।


ولإن اتفق الجميع على أن لتونس على مصر فضل السبق وفضل شعار" الشعب يريد إسقاط النظام "، فإن الجميع متفق كذلك على أن ثورة تونس وإن ألهمت المصريين فى ثورتهم فإن الثورة المصرية ألهمت الشعوب العربية فى ثوراتها المتلاحقة وألهمت العالم أجمع الذى لم يشهد فى تاريخه ثورة سلمية راقية كما هى ثورة شعب مصر ...ـ




الاثنين، 17 يناير 2011

انتفاضة الشعب 1 ـ

بصوت مرتجف وثقة غائبة وتأزم وتخبط واضحين ، أطل على الناس زين العابدين بن على رئيس الجمهورية التونسية – آنذاك – ليلقى خطابه الثالث فى الأزمة التى تشهدها البلاد منذ السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2010 ؛ تلك الأزمة التى بدأت على إثر احراق الشاب التونسى محمد البوعزيزى نفسه بعد أن تطاولت عليه شرطية باللطم على الوجه والبصق بعدما أطاحت بما تحمله عربته الخشبية من خضروات يقتات منها هو وأفراد أسرته الثمانية .
كان الذعر واضحا فى عينى السيد الرئيس وفى كلماته ، كلماته التى كان جلها عاميا ، ركيكا ومصطنعا فى محاولة يائسة من فخامته للتقرب من شعبه الغاضب النازل فى شوارع الخضراء من أقصاها الى أقصاها . كان جليا من خطاب السيد الرئيس أن أيامه فى الحكم أقل من قليلة لكن أحدا لم يتوقع أن تكون أيامه بضع ساعات قلائل يفر بعدها هاربا خارج البلاد مستجديا ملجأ له زوجه .

بدأت الحركة الشعبية أول ما بدأت تضامنية مع البوعزيزى ومالبثت أن اصطبغت بصبغة اجتماعية احتجاجا على سوء الوضع الاقتصادى والبطالة والفساد ، الفساد الذى استشرى ودب فى كل مفاصل الدولة كابن شرعى للمحسوبية وسطوة ذوى القربى ، الفساد الذى خط للحركة الشعبية خطها الصحيح والأساس ، خط سياسى اجتمعت حوله كافة فئات الشعب وأطيافه وهو ما ظهر فى اتساع رقعة الاحتجاجات وانتقالها من المحافظات الجنوبية والداخلية المعروفة باسم الجهات " الفقيرة والمهمشة اقتصاديا " الى المحافظات الشمالية الساحلية ومنها العاصمة تونس المعروفة بارتفاع المستوى الاجتماعى ومستوى الدخل .

اتسعت الاحتجاجات الشعبية السلمية وزاد تصميم المحتجين وارتفع معه سقف المطالب ليطالب برأس السلطة صراحة بدون مواربة ومعها ازداد تمسك السيد الرئيس بالسلطة وأطل على الشعب فى خطابه المتلفز الأول بعد الأزمة ، أطل واثقا متحدثا عن اهتمام بما يحدث وايلاء عطف وبعض تفهم لمطالب العاطلين والمحتجين " اجتماعيا " وأرفق خطابه بعزل بعض المسئولين المحليين فى ولاية سيدى بوزيد منبع الأزمة وعزل بعض الولاة والوزراء غير ذوى الشأن بالأحداث . انتهى الخطاب ولم ينته الاحتجاج كما صور للسيد الرئيس عقله وحاشيته بل إن تزايد وتيرة الاحتجاجات واتساع نطاقها أجبر السيد الرئيس على الخروج مرة ثانية فى خطاب متلفز أيضا لم يحمل كثير اختلاف عن سابقه اللهم إلا إعلانه عن عزل وزير الداخلية الذى حمل وحده دم الشهداء الذين ارتقوا برصاص القناصة الحى ، عزل الوزير وجىء بآخر وتحدث السيد الرئيس فى سفور مقيت عن عصابات ملثمة مأجورة تقود الاحتجاجات وعن دعم خارجى متطرف يمينا ويسارا وهو ما زاد كره الشعب له كرها ، فحتى من احتج سلميا وقتل برصاص قناصة النظام لم يجد عن سيادته إلا أقذع الأوصاف ليوصف به بدلا من أن يثأر لدمه الذى أهريق فى سبيل حرية وكرامة طالما وعد بها سيادته ولم يجد منها شيئا .

وكانت الغضبة التى أشعرت سيادته بأن الأوضاع لن تسير على هواه فأطل ثالثة فى خطابه الأخير الذى بدا محاولة يائسة بائسة لكل ذى عينين ومتابع . لم تمر سوى ساعات بعد أن أعلن السيد الرئيس للتونسيين ولأول مرة منذ 23 سنة بأنها فهمهم وعليه سيتصرف فى قابل الأيام والسنين وسيحاسب المسئولين من حوله الذين ما طفقوا يزودونه بمعلومات خاطئة عن الأوضاع على الأرض – أو هكذا ارتأى المخرج - ، لم تمر سوى ساعات حتى أصبحت البلاد فى وضع لم يكن من قبل ؛ أعلن سيادته – فى آخر قراره – حل الحكومة والدعوة الى انتخابات مبكرة فى ظرف ستة أشهر ، وكأن هذا سيحفظ له عرشه .

فر الرئيس هاربا وقرينته وتخطفته مطارات دول ودول ، دول كانت يوما أقرب الحلفاء ترفض استقباله كما فعلت أمريكا مع شاه إيران المقبور ، رفضت فرنسا استقبال بن على وقيل رفضت ايطاليا ولكنه لم يعدم ديكتاتورية فى المشرق العربى تأويه فحطت طائرته فى جدة كما حطت رحال الشاه الأخير فى القاهرة .

وفى الأزمة قيل ؛ كما جاء الرجل رحل ، ونقول ليس المجىء كالرحيل ، فهو وإن جاء على جسد بورقيبة المهترىء فإنه رحل تحت نعال من ارتقوا شهداء حريتهم ، شهداء كلمة حق عند سلطان جائر ، وأى سلطان جائر كان بن على ، فيجمع المتابعون والمحللون على أن الدولة التونسية كانت دولة بوليسية بامتياز بل إن البعض يرى بأنها الدولة البوليسية الأولى فى العالم العربى متقدمة على شقيقتها الكبرى مصر .

وفى الأزمة أيضا مايبشر بالطبع وإن كان القلق مازال حاضرا وحق له أن يظل حاضرا حتى حين ؛ أما ما يبشر فهو وعى الشعب التونسى الذى بدا جليا فى الأزمة ، وعيه بوضعه ، وعيه بوسيلة تغييره ، ووعيه بغايته . وما بدا أكثر جلاء تصميم هذا الشعب العتى الذى لم يثنه الرصاص الحى ولا القناصة ولا الوتيرة المتزايدة فى ارتقاء الشهداء ، لم يثنه كل هذا عن مواصلة حركته الاحتجاجية أو يوجد فيها بعض نكوص . وعى وتصميم كفلا للشعب قيادة هذه الحركة حتى اليوم دون أن يسمح لأى حزب أو تنظيم بتوجيهه حتى بعد أن نزلت أحزاب المعارضة " الرسمية " على مطالب الرئيس التى نقلها فى خطابه الأخير .
وأما ما يستجلب القلق فهو غياب أجهزة الأمن بشكل يسمح للمخربين والمتآمرين بالتصرف بحرية مطلقة تطرح أسئلة عديدة عن وجود الجيش ودوره فى قابل الأيام ، والقلق موصول بخوف من أن يركب بعض وجوه النظام البائد او أشباههم – كما يحدث الآن بعد اعلان الغنوشى وزير بن على الأول استلام صلاحيات الرئيس الفار مؤقتا ومن بعده رئيس مجلس النواب - الموجة ليحققوا مكاسبا خاصة ويعيدوا صياغة تجربة 1987 بشكل جديد يناسب انتفاضة 2011فيصبح وكان شيئا لم يكن .

وفى الختام نداء وعظة ، نداء للشعب التونسى وساسته الحقيقيين بأن اثبتوا حتى النهاية - وقد قربت - وما فات أعظم ، والنداء موصول للشعوب العربية المقهورة ، فإن التجربة التونسية الأخيرة أثبث بأن الشعوب اذا أرادت قدرت وفعلت فعل المستحيل بوعيها وتصميم أحرارها . وعظة لطغاة العرب و حكامهم ، فلو دامت لابن على لجاز أن تدوم لكم ، ولكنها لم تكن له ولن تكون لكم بإذن عزيز قهار ، " وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون " .
Powered By Blogger

الساعة الآن

دفتر التشريفات